لا يمكن مقاربة مسائل التمييز دون التطرق إلى معادلات القوّة ما بين الفرقاء المعنيّون به. إذا أخذنا مثلاً العلاقة ما بين أستاذ وتلميذ في المدرسة, فالأستاذ له سلطة مطلقة على التلميذ. لنقل مثلاً أنّ بإمكانيّة تلميذ التحرش بالأستاذ جنسيّاً, فبإمكان الإستاذ رفض هذا التحرش بشتّى الوسائل من طرد التلميذ, تخفيض نتائجه أو تناسي الموضوع لأنّه ليس بإمكان التلميذ الضرر بالأستاذ لأّنه ليس لديه أي سلطة أو وسيلة ضغط عليه. أما العكس فمختلف كلّياً, تحرش أستاذ بتلميذ خطر جدّاً لأنّ معادلة القوة لصالح الأستاذ كالسلطة, العمر, الموقع... إلخ. فبحال قمنا بسنّ قانون يمنع التحرش "أكان من الإستاذ أو التلميذ" نكون قد أخطأنا خطئاً فادحاً إذ نكون قد أعطينا الأستاذ سلطة أكبر فيصبح بإمكانه إستعمال وسيلة التحرّش المضاد لتبرير تصرّفاته المشينة, فكم مرّة يكون أول تبرير للمتحرش هو أن الضّحية تحرّشت به أوّلاً. تخيّلوا مثلاً أنّنا نقوم بورشة توعية على مخاطر تحرّش التلميذ بالأستاذ, هذا بمنتهى الخطورة, ويحصل مثلاً في برنامج تليفزيوني سخيف كان يعرض حالات عنف زوجي من قبل المرأة. هذا يصب في خانة تجريم الضحيّة وصرف الأنظار عن المشكلة الحقيقيّة.
الحكومة اللبنانية وقعت في هذا الفخ عن جهل أو قصد عندما أقرت قانون "الكوتا" على شكل أن ليس بإمكان لائحة أن تكون خالية من "أي من الجنسين" بإعتقادها أنّ هكذا قانون هو عدم التمييز بعينه وصياغة القانون على شكل أن اللائحة لا تكون خالية "من الإناث" فيه من التمييز ضد الذكور. في الإجمال الصيغة الثانية فيها تمييز لكن بالفعل وبالقوة هنالك أربع إناث فقط في المجلس من أصل مئة وثماني وعشرون نائباً ومعادلة القوّة لصالح الذكور كاملتاً, فالحرص على "عدم التمييز" فيه خطورة كخطورة عدم التمييز ما بين الأستاذ والتلميذ في مسألة التحرّش الجنسي. والنتيجة هي سلطة أكثر للمضتَهِد في معادلة القوّة. من هنا أهميّة إعطاء المضطَهَد صلاحيّات أكثر لإعادة التوازن في معادلات القوّة.
لكن هنا السؤال هو : "ما هي حدود إمتيازات المضطَهَد؟".
أولاً, حق التمييز هو حق للضحيّة. فإفتراضاً, طلب نساء مصر نهار خالٍ من الذكور في الشوارع هو ليس تمييز بالفعل لأن بقيّة الأيّام لا يمكن للنساء التجوّل بحريّة وهكذا طلب يعيد بعض من التوازن في معادلة القوّة.
لكن هنالك أمرار فئات مضطهدة تلعب دور الضحيّة فقط لحصول على إمتيازات. مثلاً عن ذلك, اليهود. فهم من الشعوب الأكثر إضطهاداً على مرّ العصور بدئاً بطردهم من أوراشاليم إلى تصفيتهم من قبل النظام النازي.
هل يمكن أن نقول أنّ اليهود الذين هاجروا إلى ما يسمّونه إسرائيل لم يكونوا مضطهدين؟ هل يمكن أن نبرّر كل أفعالهم بحجّة الإضطهاد التاريخي؟ وهل يمكن أن نقول أنّهم يجعلون من أنفسهم ضحيّة "victimization" لكسب بعض التعاطف والصلاحيات وتبرير إضطهادهم للفلسطينيين؟ في المقابل, هل كون الفلسطينيين ضحيّة يبرّر إستهدافهم مدنيين إسرائيليّين بتفجيرات؟
والأهم, هل يمكننا إنتقادهم؟
الجواب برأيي هو نعم, يمكننا إنتقادهم. لكن نبقى مع السؤال الأساسي, ما هي حدود إمتيازات المضطَهَد؟ لنقل مثلاً عندما يبدأ بإستعمال ال"victimization". لكن نكون قد أعطينا إمتياز جديد للمضطَهِد, فأصبح بإمكانه إسكات الضحيّة بحجّة ال"victimization". وندخل حلقة مفرغة من الإتّهامات والإتّهامات المتبادلة تنهك الضحية وتستنزفها. وفي النهاية, لا تحصّل الضحيّة حقّها ولا يلقى الفاعل عقابه.
إذا إفترضنا سماح ال”victimization”, هل يمكن لضحيّة إستعمال هذا التكتيك لأغراض شخصيّة للنيل من أشخاص وليس لتحصيل حق؟ ومن يفصل ما بين ذاك وتلك؟
أسئلة كثيرة بلا جواب, تترك للإنسان ضميره ليحكم ويقف مع الحق والضحيّة, ضدّ الإضطهاد والتمييز.
جان سليم